سورة فاطر - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (فاطر)


        


يقول الحق جلّ جلاله: {إِن الله عالمُ غيبِ السماوات والأرض} أي: ما غاب فيهما عنكم، {إِنه عليم بذاتِ الصدور} تعليل لِمَا قبله؛ لأنه إذا عَلِمَ ما في الصدور، وهي أخفى ما يكون، فقد عَلِمَ كل غيب في العالم. وذات الصدور: مضمراتها ووساوسها. وهي تأنيث ذو بمعنى: صاحب الوساوس والخطرات، تصحب الصدور وتُلازمها في الغالب، أي: عليم بما في القلوب، أو بحقائقها، على أن ذات بمعنى الحقيقة.
{هو الذي جعلكم خلائفَ في الأرض} أي: جعلكم خلفاء عنه في التصرُّف في الأرض، قد ملككم مقاليد التصرُّف فيها، وسلطكم على ما فيها، وأباح لكم منافعها؛ لتشكروه بالتوحيد والطاعة. {فمَن كفر} منكم، وغمط مثل هذه النعمة السنيّة، {فعليه كُفْرُه} فوبالُ كفره راجعٌ عليه، وهو مقتُ الله، وخسران الآخرة، كما قال تعالى: {ولا يزيدُ الكافرين كفرُهُم عند ربهم إلا مَقْتاً} وهو أشد البغض، {ولا يزيد الكافرين كُفْرُهُم إِلا خساراً} هلاكاً وخسراناً.
الإشارة: إن الله عالم بما غاب في سموات الأرواح، من أسرار العلوم والمكاشفات، والاطلاع على أسرار الذات، وأنوار الصفات، وما غاب في أرض النفوس من الموافقات أو المخالفات، إنه عليم بحقائق القلوب، من صفائها وكدرها، وما فيها من اليقين والمعرفة، وضدهما.
قال القشيري: {إِنَّ الله عالمُ غيبِ السماواتِ والأرضِ} بإخلاص المخلصين، وصدق الصادقين، ونفاق المنافقين، وجحد الكافرين، ومَن يريد بالناس شرًّا، ومَن يُحْسِن بالله ظَنًّا. اهـ.
وقال في قوله تعالى: {هو الذي جعلكم خلائف} أهل كلِّ عصرٍ خليفة عصر تقدمهم، فَمِنْ قومِ هم أنفسهم جَمال، ومن قوم أراذل وأنذال، والأفاضلُ زمانهم لهم محنة، والأراذلُ هم لزمانهم محنة. وحاصل كلامه: أن قوماً عرفوا حق الخلافة، فقاموا بحقها، وشكروا الله عليها، بالقيام بطاعته، فكانوا في زمانهم جمالاً لأنفسهم، ولأهل عصرهم، لكنهم لَمَّا تحمّلوا مشاق الطاعات، وترادف الأزمات، كان زمانهم لهم محنة. وقوماً لم يعرفوا حق الخلافة، فاشتغلوا بالعصيان، فانتحس الزمان بهم، فكانوا محنة لزمانهم.


قلت: {أرأيتم}: بمعنى: أخبروني، وهي تطلب مفعولين: أحدهما منصوب، والآخرُ مُشتمل على استفهام، كقولك: أرأيت زيداً ما فعل، فالأول: {شركاءكم} والثاني: {ماذا خلقوا}. و{أروني}: اعتراض، فيها تأكيد للكلام وتشديد. ويحتمل أن يكون من باب التنازع؛ لأنه توارد على {ماذا خلقوا}: {أرأيتم} و{أروني}، ويكون قد أعمل الثاني على المختار عند البصريين. قاله أبو حيان. ولابن عطية وابن عرفة غير هذا، فانظره. و {بعضهم}: بدل من الظالمين.
يقول الحق جلّ جلاله: {قل لهم أرأيتُمْ شركاءكم} أي: أخبروني عن آلهتكم التي أشركتموها في العبادة مع الله، {الذين تدْعُون} أي: تعبدونهم {من دون الله} ما سندكم في عبادتهم؟ {أروني ماذا خَلقوا من الأرض} أي: جزء من الأرض، استبدُّوا بخلقه حتى استحقُّوا العبادة بسبب ذلك، {أم لهم شِرْكٌ في السماوات} أي: أم لهم مع الله شركة في خَلْق السموات حتى استحقُّوا أن يُعبدوا؟ بل لا شيء من ذلك، فبطل استحقاقها للعبادة. {أم آتيناهم كتاباً} أم معهم كتاب من عند الله ينطق بأنهم شركاؤه، {فهم على بينةٍ منه} فهم على حجة وبرهان من ذلك الكتاب؟ قال ابن عرفة: هذا إشارة إلى الدليل السمعي، والأول إشارة إلى الدليل العقلي، فهم لم يستندوا في عبادتهم الأصنام إلى دليل عقلي ولا سمعي، {بل إِن يَعِدُ الظالمون} أي: ما يَعِد الظالمون، وهم الرؤساء {بعضُهُم بعضاً إِلا غُروراً} باطلاً وتمويهاً، وهو قولهم: {هَؤُلآَءِ شُفَعَآؤُنَا عِندَ اللهِ} [يونس: 18] لَمَّا نفى أنواع الحجج العقلية والسمعية، أضرب عنه بذكر ما حملهم عليه، وهو تقرير الأسلاف الأخلاف، والرؤساء الأتباع؛ بأنهم شفعاء عند الله تُقربهم إليه. هذا هو التقليد الرديء، والعياذ بالله.
الإشارة: كل مَن ركن إلى مخلوق، أو اعتمد عليه، يُتلى عليه: {أرأيتم شركاءكم...} الآية. وفي الحِكَم: (كما لا يقبل العمل المشترك، لا يُحب القلب المشترك. العمل المشترك لا يقبله، والقلب المشترك لا يُقبل عليه).


يقول الحق جلّ جلاله: {إِن الله يُمسك السماواتِ والأرضَ أن تزولاَ} أي: يمنعهما من أن تزولا؛ لأن إمساكهما منع. والمشهور عند المنجمين: أن السموات هي الأفلاك التي تدور دورة بين الليل والنهار. وإنكار ابن يهود على كعب، كما في الثعلبي، تحامل؛ إذ لا يلزم من دورانها عدم إمساكها بالقدرة، وانظر عند قوله: {وَالشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا...} [يس: 38] قال القشيري: أمسكهما بقدرته، وأتقنهما بحكمته، وزينهما بمشيئته، وخلق أهلهما على موجب قضيته، فلا شبيه في إبقائهما وإمساكهما يُسَاهِمُه، ولا شريك في إيجادهما وإعدامهما يقاسمه. اهـ.
{ولَئِن زَالَتَا} على سبيل الفرض، {إِنْ أَمْسَكَهُما من أحدٍ من بعده} من بعد إمساكه. و {من} الأولى: مزيدة، لتأكيد النفي، والثانية: ابتدائية، {إِنه كان حليماً غفوراً} غير معاجل بالعقوبة، حيث أمسكهما على مَن يشرك به ويعصيه، وكانتا جديرتين بأن تهدّ هدّاً، كما قال: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ...} [مريم: 90] الآية.
الإشارة: الوجود قائم بين سماء القدرة وأرض الحكمة، بين سماء الأرواح وأرض الأشباح، بين سماء المعاني وأرض الحس، فلو زال أحدهما لاختل نظام الوجود، وبطلت حكمة الحكيم العليم. الأول: عالم التعريف، والثاني: عالم التكليف. الأول: محل التنزيه، والثاني: محل التشبيه، الأول: محل أسرار الذات، والثاني: محل أنوار الصفات، مع اتحاد المظهر؛ إذ الصفات لا تفارق الموصوف، فافهم. وفي بعض الأثر: إن العبد إذا عصى الله استأذنت السماء أن تسقط عليه من فوقه، والأرض أن تخسف من تحته، فيمسكها الله تعالى بحلمه وعفوه، ثم تلى الآية: {إِن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا} إلى قوله: {كان حليماً غفوراً}. اهـ. بالمعنى.
ثم ذكر عناد قريش وعتوهم، تتميماً لقوله: {والذين كفروا لهم نار جهنم...} إلخ.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8